الأحد، 27 نوفمبر 2011

الحرية المسيحية


مفهوم الحرية:
الحرية هى أن أستطيع أن أفعل ما ينبغى أن أفعله.
وهى ليست مجرد كلام، أو شعارات خارجية ظاهرية، ولا حتى مجرد مبادئ يسعى الإنسان لتحقيقها، حيث قد يتحول الحديث عن الحرية والسعى إليها إلى أغلال تكبلنى تكون هى العبودية بعينها. إنما الحرية تنبع أساسا من الداخل.
وهى ليست فعلا تعسفيا أو تصرف أعمى عن اندفاع أو هوى، إنما هى فعل واع مستنير يصدر عن فهم وتدبر للأمور وتعقل لها يستند إلى مبررات ويهدف إلى غايات محددة.
فليست الحرية فوضى، ولا تسيب.

لذلك ترتبط الحرية ببعض الأمور منه:

1- الحرية والقانون:
لم يكن فى وسعنا أن نجتهد فى التحكم فى الكون لو لم يكن له قانون نعمل على اكتشافها لنتمكن من تحقيق مقاصدنا الحرة.
فكل شيء فى الوجود، وإن تمتع بشيء من الحرية إلا أنه يخضع لقانون. وقد يظهر لنا العالم هكذا أنه عالم قاس، ولكنه فى الواقع أفضل لنا لأنه هكذا يمكن الاعتماد عليه إذ يسير حسب قانون وليس متقلبا ويسير بالصدفة. وهكذا يمكننا أن نعرف ما نتوقع.
وكل شيء له حرية كجزء، ولكنه ملتزم فى حدود الكيان الذى هو جزء فيه، ولننظر إلى الإنسان كعالم صغير، فهو مؤلف من مجموعة أعضاء، لكل عضو تكوينه ووظيفته وقوانينه، فالقلب يعمل من حيث هو قلب والكبد يعمل من حيث هو كبد، وهكذا، ولكنه فى عمله ملتزم حدود الكيان الكبير. فالحرية هنا لا تتنافى مع الاتساق العام. وأنت حر فى أن تحرك رجليك ويديك، ولكنها حرية محكومة بما فيهما من عضلات وأعصاب..الخ.
ولاعب الكرة حر فى أن يضرب الكرة كما يشاء وفى أى اتجاه، ولكن حريته هذه محدودة بهدفه مع زملائه وبقوانين اللعبة.
فالقوانين هى التى تنظم حياتنا وتعطى الحرية الحقيقية، والمعنى الحقيقى. وما معنى الحرية بدون صعوبات نجتازها ونتغلب عليها؟ ولذلك أعطيت الوصية.
فحرية الإنسان ليست مطلقة بلا ضابط، إنما هى منضبطة لذلك فهى حياة لها معنى (لها معالم محددة).
ومن كلمات طاغور شاعر الهند العظيم حديث عن وتر الكمان الحر الملقى على منضدة، وغير مشدود إلى الآلة ويظن نفسه أنه حر. ولكن متى وضع فى الكمان، وشد عليها، يخرج نغما له معنى. والبحر لن يكون بحرا بدون شاطئيه، بل سيضيع ولا يكون له وجود.

2- الحرية والمسئولية:
+ الكتاب المقدس يعاملنا كأشخاص مسئولين أخلاقيا، ويضع علينا ضرورة الاختيار:
"أُشْهِدُ عَليْكُمُ اليَوْمَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ. قَدْ جَعَلتُ قُدَّامَكَ الحَيَاةَ وَالمَوْتَ. البَرَكَةَ وَاللعْنَةَ. فَاخْتَرِ الحَيَاةَ لِتَحْيَا أَنْتَ وَنَسْلُكَ " (تث 30: 19) ُ
+ ومسئوليتنا أمام الله جانب من كرامتنا البشرية غير قابل للتحويل إلى الغير. فالإنسان كائن مفكر ذو إرادة، مخلوق على صورة الله ومثاله ومسئول أمام الله. إنها هى التى تميز الإنسان عن باقى المخلوقات. وإذا ألغيت هذه المسئولية اختفى معنى الوجود الإنسانى.
والكتاب يقول: إن ما يزرعه الإنسان إياه يحصد. وهذا حق، فنحن دائما نحصل على نتائج أعمالنا.
والإنسان حر أن يختار نوع العمل الذى يعمله، لكنه ليس حرا أن يختار النتائج، وهو مسئول عنها.

3- الحرية والتدبير الإلهى:
لفهم الصلة بين التدبير الإلهي والحرية الإنسانية، نقول أنه يجب أن نفرق بين قرار إرادة الإنسان الحرة، وبين النتائج الخارجية لهذا الفعل الحر. فالإنسان حر فيما يتصل بالقرار الذي يأخذه، أما النتائج فهي ترتبط بعوامل أو أسباب أخرى، وهي توجه حسب تدبير الله وعنايته. وهكذا فإن الإرادة الحرة لا تجرح، ولكنها تضبط وينظر إليها من خلال العناية الإلهية.
ولو قلنا غير هذا يكون المعنى أن العالم يسير بلا ضابط.
والواقع أن الله لا يسلب الإنسان حريته ولكنه يستخدم أفعال الإنسان الحرة فى الوصول إلى تحقيق خطته.

4- الحرية والمعرفة:
كما قلنا إن التحكم فى الطبيعة يستلزم معرفة قوانينها.
والطبيب والمهندس لا يكون حرا فى أفكاره وتصرفاته إلا بقدر علمه ومعرفته لما هو بصدده.
فقدرة الإنسان على العمل ترتبط بمعرفته بميدان العمل وما يتعلق به.
مثال الطفل والفنان والورقة والفرشاة والألوان. فإذا أزيلت الموانع من أمام الطفل انطلقت حريته المجنونة تشخبط الخطوط والألوان على الورقة بلا هدف، أما الفنان العارف بأسرار فنه فيستطيع بحريته المقيدة بقواعد الفن وأصوله أن يبدع ما يضاف إلى كنوز الجمال.
ففيما يعرفه الإنسان يكون حرا. وفيما لا يعرفه تقيد حريته (محاورة ليزيس لأفلاطون حيث ليزيس السيد لا يستطيع أن يركب الخيل إلا فى حدود تعليمات السايس وهو عبد لديه).

5- الحرية والصراع وتحقيق الذات:
حرية الإنسان لا تنفصل عن تحقيقه لذاته، وهذه عملية شاقة وصراع مستمر فى حركة دائمة للبلوغ إلى الحرية.
وداخل هذه الحركة نميز مرحلتين: التحرر، والحرية.
فالطفل تخضع حياته فى بدايتها للجبرية التى تتحكم فى الحيوان " مبدأ اللذة هو الذى يقود سلوكه ". ثم يبدأ يتفتح ذهنه لاعتبارات أخرى غير اللذة فيقولا " لا " لميوله وهنا تبدأ لحظة التحرر، حيث يقدر على اختيار بعض القيم الروحية فيتحرر تدريجيا من عبوديته الأولى (التناول والأكل).
والعبد الحقيقى هنا هو من يؤثر أن يظل رازحا تحت نير العبودية.
فالحرية تتطلب صراعا شاقا ضد الذات نفسها.
وهذا ينطبق على الطفولة الروحية والحرية الروحية أيضا " لما كنت طفلا...".

6- الحرية والفكر:
حرية الإنسان فى حقيقتها حرية فكر. حيث يبدأ الاختيار من اختيار موضوع التفكير، وحيث يستطيع الإنسان أن يوجه أفعاله بأن يوجه أفكاره. وكما يقول توما الإكوينى: بإنعام النظر فى بعض الأفكار والعمل على إطالة أمدها يستطيع الإنسان أن يوجه مجرى الشعور وبالتالى يحدد الأفعال.
فحريتنا تنحصر أولا وقبل كل شيء فى اختيارنا لموضوع أفكارنا:
مستأسرين كل فكر إلى طاعة المسيح  (2 كو10: 5)
ولذلك نصر على قراءة الإنجيل والكتب الروحية..

7- الحرية والإرادة والرغبة:
ينبغى أن نفرق بين الإرادة والرغبة. وليست الحرية أن يفعل الإنسان كل ما يرغب، بل غالبا ما لا يكون الإنسان حرا إلا فى اللحظة التى يتوصل فيها إلى أن يريد شيئا لا تتطلبه رغبته، بل على الرغم من تلك الرغبة. فالإرادة هنا تكون غلبة على الرغبة والحرية هى فى إتمام الإرادة (الرغبة فى التملك والتخلى عن الملكية، الرغبة فى الطعام والصوم، الرغبة فى الانتقام وإرادة التسامح) ويستلزم هذا مع حرية الإرادة (إرادة الحرية) أى أن يريد الإنسان أن يتحرر مما هو مستعبد له.

8- الحرية والفعل:
من شأن الإرادة أن تستحدث أعمالا مرئية تعمل على تحقيقها فى العالم المادى، وهذه الأعمال تصبح حقائق فى نظر الآخرين.
والفعل هو الذى يخلع على الذات معناها ويكشف قيمتها الحقيقية "الإيمان والأعمال" و "من ثمارهم تعرفونهم".

9- مراحل الحرية:
معنى الحرية للإنسان أن يختار بنفسه مصيره الخاص، أى أن يختار ما يكونه. حيث يتميز الإنسان عن سائر المخلوقات (فالبذرة التى تنطوى على إمكانيات الشجرة الكبيرة والتى متى توفرت لها الظروف فبالضرورة تحقق ما تنطوى عليه من إمكانيات، بلا اختيار)
ولا يستطيع الإنسان أن يختار ما يريد أن يكونه مرة واحدة وإلى الآبد، بل فى تدرج ونمو مستمر.

10ـ الحرية والإيمان:
الله يحترم حرية الإنسان، ويحبه. يمكن للإنسان أن يرفض الله، ولكن لا يمكن لله أن يرفض الإنسان. يمكن للإنسان أن يكتفى بذاته ولكن الله عطاء كله. يمكن للإنسان أن يترك البنوة ولكن الله لا يمكن أن لا يكون أبا.
ولكن قبولى لله (بحريتى) يفترض أن أقبل بأن وجودى عطية من الله ولو كان لى سلطان بأن أستخدم هذه العطية كما أشاء وأن أحولها، إذا أردت، ضد معطيها.
قبولى لله يعنى اعترافى بأن لى مقياسا ومرجعا ولو أعطيت سلطانا بأن أضرب بهذا المقياس وهذا المرجع عرض الحائط.
قبولى لله يعنى أننى لست مالكا لذاتى ولو أعطيت سلطة التصرف بذاتى كما أشاء.
قبولى لله لا ينفى حريتى ولكنه يعنى أن هذه الحرية ليست غاية بحد ذاتها.
إن كونى مخلوقا لا ينزع منى وجودى، إنما ينزع منى امتلاك هذا الوجود. فما ينزع منى هو إرادتى بالاكتفاء الذاتى. فإيمانى بالله صليب للنرجسية الروحية.
لذلك فالحرية ليست فقط حقا أوتيناه، إنما هى واجب يطالبنا به الله الذى لا يريد أن يقيم علاقة إلا مع بشر أحرار. ليس الإنسان شيئا بالنسبة لله، فالله لا يريد تشييء الإنسان.
والحرية الأصيلة تعنى تحرير الإنسان من كل أغلاله. فأن أكون حرا يعنى أن أحطم قيودى وأتخلص من محدوديتى وأحقق ذاتى على أكمل وجه. ولكن، وعلى المستوى الإنسانى، الإنسان لا يحقق ذاته إلا بالآخر، كالرجل الذى يكتمل بالآبوة، والمرأة التى تكتمل بالأمومة، إذا عاشاها فى أصالتها المعطاء. وبالأحرى الصحيح على المستوى الإنسانى صحيح بالأكثر بالنسبة لعلاقة الإنسان بالله، فلا يحقق الإنسان ذاته إلا بذلك الآخر الإلهى الذى منه يستمد كيانه. فرفض الإنسان لله يعنى انفصاله عن جذور كيانه وينبوع وجوده.
وحرية الزهرة لا تتحقق بأن تستقل عن الجذع فتذبل، بل أن تتصل به صميميا، حيث تحقق ملء وجودها كزهرة. وحرية السمكة ليست بأن تخرج من الماء الذى يكتنفها، بل أن تبقى ملازمة له. هكذا فالإنسان يجد حريته الحقة فى عودته إلى القوة التى أعطته الحياة والتى تعطيه إياها باستمرار فى العمق. فاتجاه الله نحو الإنسان هو وحده الذى يمنح الإنسان الحرية الحقة لأنه وحده يمده بطاقة تمكنه من تحقيق ذاته كليا.
ولقد ميز القديس أوغسطينوس بين الحرية الصغرى والحرية الكبرى، فالأولى هى حرية الاختيار، أما الثانية فهى الاتحاد بالله. وقال أحدهم أن الحرية الحقة هى " قدرة على الاختيار فى خدمة قدرة على الاكتمال ".
وإذ يقول بولس الرسول:
"لأَنَّ الْخَلِيقَةَ نَفْسَهَا أَيْضاً سَتُعْتَقُ مِنْ عُبُودِيَّةِ الْفَسَادِ إِلَى حُرِّيَّةِ مَجْدِ أَوْلاَدِ اللهِ". (رو 8: 21)
يعنى أن الآبناء متصلون بالله دون أن يكون ارتباطهم الصميمي به أى أثر للعبودية. ذلك أن الله ليس كيانا غريبا مفروضا على كيانهم، بل إنهم به، وبه وحده، يجدون ذواتهم. فالله هو الكائن المتعالى كليا، ولكنه فى نفس الوقت أقرب إلى الإنسان من ذاته، حتى أن الإنسان لا يقترب من ذاته الأصيلة محققا كل طاقاته، إلا بمقدار اقترابه من الله.
الله وحده يحرر الحرية، شرط أن نعرفه على حقيقته كما كشف ذاته لنا فى السيد المسيح، عطاء كليا وانعطافا غير متناه، لا ملغيا وجودنا بل مؤكدا له بإمداده من وجوده، لا مبطلا حريتنا بل داعيا إيانا إلى الاشتراك فى حريته بأن نعرفه فيحررنا.
الله لا يشاء تحقير الإنسان، بل كما أن الآب الجدير بهذا الاسم يسر بأن يصبح ابنه مثله مكتمل الرجولة، هكذا شاء الله أن يجعلنا شركاء طبيعته وأن يعاملنا معاملة المثل للمثل.
ولقد أتى المسيح لا كإله كلى القدرة كما ننتظره بل كإله وإنسان، كأخ لنا، متضامن معنا فى أخطائنا، وبدون أى قدرة سوى قدرة الحب الذى يبذل نفسه ويخلص.
هذا الاحترام الإلهى لحرية الإنسان يحدد طبيعة الإيمان. فالإيمان يقين ولكنه يقين حر. ذلك أن الله يريد أن يقبل الإنسان إليه تلقائيا، لا مغلوبا على أمره، لذا فعوض أن يفرض وجوده علينا يحتجب لكى يتسنى لنا أن نقبل إليه بحرية الحب.
السيد المسيح الذى هو موضوع إيمان وحب، لا يظهر بشكل يغتصب الإيمان. إنما يظهر بشكل عبد يموت ميتة شائنة. لذا يلزم اختيار حر وحب مقدام ليرى المرء فى صورة المسيح، العبد المهان، القدرة الجليلة لابن الله.

11-  الحرية وحدودها الإنجيلية:
كُلُّ الأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي لَكِنْ لَيْسَ كُلُّ الأَشْيَاءِ تُوافِقُ. (1كو 6: 12)
كُلُّ الأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي لَكِنْ لاَ يَتَسَلَّطُ عَلَيَّ شَيْءٌ (1كو 6: 12)
كُلُّ الأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي وَلَكِنْ لَيْسَ كُلُّ الأَشْيَاءِ تَبْنِي (1كو10: 23)
إِنْ كَانَ طَعَامٌ يُعْثِرُ أَخِي فَلَنْ آكُلَ لَحْماً إِلَى الأَبَدِ لِئَلاَّ أُعْثِرَ أَخِي. (1 كو 8: 13)

هناك تعليق واحد: