السبت، 3 ديسمبر 2011

الكرازة ومدرسة الإسكندرية


لقد كانت مدرسة الإسكندرية بشكلٍ عام معهدًا للكرازة، على الرغم من أنها لم تكن منظمة لإعداد الكارزين بالمعنى الحديث. والكرازة كانت هي قلب ونواة بل وحياة المدرسة. وكان منهجها هو سيمفونية الحب الإلهي.
فكلَّما يُمارَس الحب الإلهي، كلما اشتعلت القلوب بالرغبة في الكرازة بغير انقطاع. مع أن المدرسة لم يكن بها قسم "اللاهوت الكرازي" إلا أنه كان لديها القدرة على تحريك قلوب الأساتذة وتلاميذهم للعمل الكرازي في مصر وخارجها. 
المدرسة في تكوينها التنظيمي وفي مراحلها المختلفة وفي فهمها للكتاب المقدس ومنهجها اللاهوتي وكذلك في نظرتها للكنيسة وتقليدها، هي معهد كرازي حيّ، علمي وعملي، إنجيلي كنسي واقعي أيضًا. 

مدرسة الإسكندرية والقلب الناري 
عندما نتكلم عن مدرسة الإسكندرية فإننا لا نقصد المعنى الحرفي لكلمة مدرسة، فنفكر في مباني المدرسة أو مباني الكنيسة.
 إن المدرسة في جوهرها، هي المُعَلِّم بقلبه الملتهب مثل الجمر. أينما كان فإنه يُلهب قلوب تلاميذه بالحب الإلهي، وفي مقابل ذلك يشتاق التلاميذ لمشاركة جميع البشر خبرتهم في هذا الحب الإلهي الناري. 
إن دراستنا لمدرسة الإسكندرية، تُعلِن حقيقة أن الكنيسة الأولى في مصر هي كنيسة الكرازة. أصبحت الكنيسة شاهدة لهذا الحب المُلتهِب الإلهي الذي لم يتمكن العالم كله من إطفاءه. هذا الحب يرفع كل إنسانٍ، إن أمكن، إلى عرش الله. 

مفهوم الكرازة في الكنيسة الأولى 
لقد فهم مسيحيو الكنيسة الأولى المسيحية، على أنها دعوة للخلاص. لقد أقروا بأنهم أعضاء في جسد المسيح الواحد كما أدركوا سُكنَى الروح القدس في داخلهم. وبهذا المفهوم العملي، استمر المؤمنون في الكرازة.
ولقد كانت شهوة قلب جميع المؤمنين هي الاستمرار في الكرازة حتى يُمجِّد كل البشر، الله، من خلال عمل الثالوث القدوس. 
ولم يكن عند المسيحيين الأوائل خطط محددة للعمل الكرازي، بل الكنيسة ككل: كهنة وشعب، كانوا يُعتَبَرون كارزين أتقياء.
 فمثلاً القديس يوحنا ذهبي الفم قال مرة لشعبه "أنتم هو الأسقف!". لقد شعر أن رسالته هي أن يُعِدَّ كل أحد للخدمة والكرازة. هذا دليل على أن كل عضو في الكنيسة سيستمر في العمل من أجل انتشار ملكوت الله على الأرض. ولذلك اعتبر القديس يوحنا ذهبي الفم أن كل عضو في الكنيسة هو أسقف.
 وذات مرة، نظر القديس يوحنا مرة إلى الكاتدرائية في القسطنطينية ولاحظ أنها مزدحمة جدًا، فقال للشعب "إنني سأحزن كثيرًا لو سمعت بوجود ولو شخص واحد في هذه المدينة لم يعرف كيف يتمتع بالخلاص". هذا يُظهِر بوضوح قلب القديس يوحنا المُلتهب الذي هو مثال لقلب المؤمن الحقيقي. 
الكرازة في المراحل المختلفة للمدرسة 
لقد نشأت هذه المدرسة المسيحية كمدرسة لتعليم مبادئ الديانة المسيحية؛ فقد كان عمداء الكلية ــ في الحقيقة ــ مُعَلِّمين لمبادئ الديانة catechists، وقد كان الموعوظون يلتحقون بها ليتعلموا الإيمان المسيحي.
 ولقد قام العلامة أوريجانوس بوصف عمل المُعَلِّمين catechists في أكثر من كتاب من كتبه موضحًا أنه كان يُعَلِّم العقيدة ويعطي تعليمات عن الحياة المسيحية؛ حيث قال أنه لو أردتَ أن تَقْبَلَ المعمودية:
[ يجب أولاً أن تتعلم كلمة الله، وتقطع جذور رذائلك وتصحح حياتك الطائشة البربرية وتمارس الوداعة والتواضع. عندئذ تصبح أهلاً لقبول نعمة الروح القدس]. 
إنَّ كلمات أوريجانوس تظهر أن هدف المدرسة الأولى هو الكرازة لغير المؤمنين وإعدادهم ليتمتعوا بالبنوة لله. 
ولقد أشار القديس كليمندس السكندري إلى المراحل الثلاثة لهذه المدرسة التي تشرح عمل الكنائس الكرازي في: 
(1) كتابه الأول "نُصْح لليونانيين" Protrepticus Pros Ellinas شرح وجود مرشدين عظماء اختاروا أن يكرسوا حياتهم لرد غير المؤمنين وحتى أيضًا المؤمنين الذين ضلّوا، وارجاعهم إلى الكنيسة. وأيضًا شرح خيانة الذين اختاروا أن يتبعوا أصنامًا وأخلاقيات هي من وضع المجتمع. 
(2) الكتاب الثاني "المُعَلِّم" Paidagogos وهو يشجِّع الذين قبلوا الإيمان المسيحي أن يتشكلوا بأيدي يسوع المسيح، المخلِّص. 
(3) الكتاب الثالث "المتفرقات" Stromata وهو يُظهِر حياة إنسانًا قَبِلَ الإيمان بالثالوث القدوس وكيف أن الرب يُظْهِر له إرادته، حكمته وأسراره المقدسة بواسطة روحه القدوس. ويوضِّح الكتاب أنه سيجلس عند قدمي مُعَلِّمه ليتفهم الحياة الفاضلة والرب سيحمله إلى ملكوته كما حَمَلَ العريس السماوي (الرب) عروسه السماوية (النفس البشرية). 
إنَّ هذه المراحل الثلاثة تُظهر مدرسة الإسكندرية كأمٍ مُحِبَّة تحتضن البشر وتجعلهم أولاد روحيين وناضجين لله، وأعضاء حقيقيين لكنيسة المسيح الواحدة. لذا فقد أسهمت في اشباع ثلاث فئات من المجتمع: 
+ غير المؤمنين: ليكتشفوا الطريق الإلهي للخلاص ويتحولوا إلى المسيحية. 
+ الموعوظون: لتُعدَّهم لقبول سر المعمودية، والدخول في دائرة التبني للآب السماوي. 
+ المؤمنون: لينمو ويصيروا ناضجين روحيًا. 

هكذا تشرح الثلاثة كتب الدور الكرازي لمدرسة الإسكندرية التي كان يشتهي كل من عمدائها وتلاميذها رؤية البشرية وقد صارت عروس سماوية على شِبه العريس السماوي.
 لهذا لم تكن الكرازة في مدرسة الإسكندرية مجرد دعوة لقبول الإيمان كتعاليم نظرية، بل بالأحرى كانت دعوة للحياة العملية، كأعضاء في جسد المسيح. ولم يسترِح عمداء المدرسة حتى يروا العالم وقد صار عروسًا سماويًا. 

الكرازة ووجهة نظر المدرسة تجاه الكتاب المقدس 
لقد استوعب عمداء مدرسة الإسكندرية الكتاب المقدس كرحلة النفس إلى السماء. لذا فقد ولعوا بالكتاب المقدس. ولقد ترجم القديس بنتينوس مع تلاميذه في القرن الثاني الكتاب المقدس إلى اللغة القبطية، وكتب تفاسير على كل أسفار الكتاب المقدس تقريبًا. 
أما العلامة أوريجانوس فقد كرَّس حياته لدراسة الكتاب المقدس وكان يقضي معظم لياليه في قراءة الكتاب مع السجود والصلاة. وكان قلبه وعقله وروحه وحواسه ملتصقة كليةً بالكتاب المقدس.
إنَّ هذا المنهج دفعه أن يكرز على الدوام أثناء رحلاته في بلادٍ كثيرة. 
ولم يتجاهل أوريجانوس الطريقة العلمية في دراسة الأسفار المقدسة. وكان يؤمن أن الكتاب المقدس هو رسالة شخصية موجهة لكل إنسان. وكان مشغولاً جدًا في دعوة العالم كله ليشترك في المجد الأبدي. 
وعلى الرغم من أن كثيرين كان عندهم موهبة الكرازة إلا إنه لم يكن عندهم النعمة الإلهية، لهذا لم يقدروا أن يلمسوا قلوب الناس ليقودوهم إلى الإتحاد بالآب وصُحبة الابن وسكنى الروح القدس. 

      الكرازة ومنهجهــــــا 
يمكننا أن نكتشف فكر السكندريين في الكرازة عن طريق خصائص فكرهم اللاهوتي. فمثلاً: 
(1) تجديد الطبيعة البشرية 
لقد قرر الكثير من الدارسين أن تجديد الطبيعة البشرية أو نعمة التجديد إنما هو قلب علم اللاهوت السكندري. وهذا يتم بحسب الفكر السكندري بمشاركتها خصائص ربنا يسوع المسيح. ولقد تكلَّم القديس بطرس الرسول عن تمتع المؤمنين بأن يصيروا "شركاء الطبيعة الإلهية" (٢بط١: ٤) وكذلك القديس بولس الرسول عن الإنسان الذي يتجدد "حسب صورة خالقه" (كو٣: ١٠).
 إن تجديد الطبيعة البشرية يوجه قلوب السكندريين بعيدًا عن الخلافات حول تعريف المصطلحات اللاهوتية ويقودهم إلى الحصول على النعمة الإلهية مثل التمتع بالاتحاد بالآب في ابنه الوحيد من خلال عمل روحه القدوس. 
ويقول القديس كليمندس السكندري: 
[ لأجل هذا نزل، لهذا اتخذ طبيعة بشرية، لهذا احتمل آلام الإنسان بإرادته، حتى أنه وضع نفسه إلى مستوى ضعفنا حتى يرفعنا إلى مستوى قوته ]. 
ولقد كان تركيز علم اللاهوت السكندري على "تجديد الطبيعة البشرية" حتى نتلامس مع حب الله الفائق. إنه يُحَوِّل كيان الإنسان إلى أيقونة لله خالقه، ويجعله شريكًا للطبيعة الإلهية.
إنه لا يتوقف عند كيان الإنسان الداخلي فحسب بل يمتد إلى الجسد نفسه، حتى يحوله تدريجيًا إلى طبيعة ممجدة. فتصبح حياة المؤمن رحلة يومية إلى السماء مجتذبًا إخوته معه حتى يتذوقوا الحياة السماوية. 
إن الفكر السكندري يركز على فتح أعين الكثير من المؤمنين حتى يكتشفوا إمكانياتهم، فلا يصيرون فقط أيقونة للمسيح بل أيضًا يكونون واثقين في تجديد الطبيعة البشرية، ويجدون متعتهم في الكرازة على الرغم من الصعوبات، مؤمنين أن القدرة على الكرازة إنما هي برهان على نعمة الله التي فيهم وفي إخوتهم. فيثقون أن الله سيجدد ويقدس أرواحهم لأجل ملكوته السماوي. 

(2) اللاهوت الخلاصي (السوتيريولوجي) Soteriological theology 
لقد انتشرت المسيحية في الإسكندرية بمصر بكرازة القديس مرقس الرسول والإنجيلي. 
هذا القديس الذي انقطع حذاؤه أثناء السير فذهب لإسكافي بمدينة الإسكندرية يُدعَى أنيانوس الذي بينما كان يُصلِح نعل القديس، ثقبت الإبرة يده، فصرخ: "يا الله الواحد". فشفى القديس يده باسم ربنا يسوع المسيح.
 بعدئذ شهد أنانيوس للإله الواحد الذي كان يؤمن به ولكن بدون معرفة. وقد بشَّر القديس مرقس الإسكافي بالله الذي يشفي ليس فقط أجسادنا بل أيضًا طبيعتنا البشرية بواسطة ابنه، الكلمة المتجسد، يسوع المسيح. فآمن أنانيوس وأصبح مسيحيًا. ثم رسمه القديس مرقس أسقفًا لمدينة الإسكندرية. 
لقد استخدم مار مرقس شفاء جرح أنانيوس باسم يسوع المسيح كنقطة بدء لكرازة الإنجيل ولم يُظهِرْ الله كاعتقاد يؤمن به، بل بالأحرى كمُخلِّص يفدي الطبيعة البشرية. لهذا فنحن نعرف الله، ليس من خلال مناقشات نظرية بل خلال أعماله الخلاصية.
 وحتى الآن هذا هو المعتقد الأساسي للاهوت السكندري. الله يهب لنا معرفة جديدة وحياة أبدية وممجدة. 
هكذا زرع القديس مرقس حقًا في تُربة التعليم اللاهوتي بذرة قد أنتجت ثمر خلال السنين. واحدى هذه الثمار هو الارتباط الوثيق بين المعرفة اللاهوتية والخلاص.
 فالله يهب المعرفة التي لا تنفصل عن خلاصنا. هذا يظهر بوضوح في الفكر اللاهوتي عند للقديس كليمندس السكندري الذي كان يُقدِّم دائمًا ربنا يسوع المسيح بصفته "المعلم". 
ففي كتابه المُسَمَّى Paidagogos "المُعَلَّم" أو "المُرَبِّي" تكلم عن المُعَلِّم الإلهي بصفته "الطبيب الشافي لجميع البشر".
 وفي كلمات أخرى يقول القديس كليمندس أن المعرفة الإلهية لا يمكن أن تنفصل عن خلاصنا. ولقد كان شديد الإيمان بـ [أنها إرادة الله بوجوب أن نبلغ إلى معرفة الله التي هي الاتصال بعدم الموت]. 
إن إحدى السمات الرئيسية للمدرسة الإسكندرية هي اللاهوت الخلاصي Soteriological theology الذي هو نظام اللاهوت المؤسَّس أصلاً على خلاص الإنسان. إنَّ هذا المنهج رسولي بالأساس؛ فقد كان الآباء الرسل يشهدون أثناء تبشيرهم بالإنجيل، بأن الرب يسوع هو المسيا Messiah مُخلِّص البشر.
 فهم لم ينهمكوا في مجادلات لاهوتية، لكنهم كانوا منشغلين بخلاص الإنسان. فاللاهوت الخريسطولوجي عندهم يتأسس على الفكر الخلاصي. 
ويقول جارازلوف بليكان Jaraslov Pelikan :- أن المسيحيين الأوائل اشتركوا في الإيمان الراسخ بأن الخلاص هو العمل الذي لا يمكن أن يكون عمل أي أحد سوى رب السماوات والأرض.
وإننا لنجد أنَّ أقدم عظة بقيت من الكنيسة الأولى تُفتتح بهذه الكلمات: [ إخوتي، يجب أن نفكر في يسوع المسيح بصفته الله، ديَّان الأحياء والأموات. ويجب ألاَّ نقلل من شأن خلاصنا لأننا عندما نقلل من شأنه، فحينئذ نتوقع أن نأخذ قليلاً ]. 
+ أثيناغوراس في كتابه "التماس من أجل المسيحيين" Plea on behalf of Christians كتب للإمبراطور ماركوس أوريليوس أنطونيوس Marcus Aurelius Antonius (١٦١م. -١٨٠م.) ولابنه كومودوس Commodus، داحضًا الاتهامات الثلاثة التي وُجِهَت ضد المسيحيين في ذلك الحين وهي: الإلحاد، أكل لحوم البشر وممارسة المعاشرات الأوديبية. ولم ينجح فقط في الدفاع عن المسيحية بل أيضًا سعي لكيما يكرز للأباطرة.
ولقد كانت فرصة عظيمة أن يعلن أثيناغوراس الحق لهؤلاء الأباطرة، ولأولئك الذين قرأوا الالتماس ليشهدوا للحياة الإنجيلية. كان هدفه ليس فقط أن يدافع عن الإيمان المسيحي بل أيضًا أن يدعو كل أحد لخلاص المسيح. 
+ لم تُقدِّم الكنيسة الأولى أفضل من القديس كليمندس كمُمثِّل للمُفكِّر المسيحي . إنه يؤكد على أن هدف التعليم المسيحي هو [عملي وليس نظري وأن غرضه هو الارتقاء بالنفس، لا تعليمها، بل تدريبها لحياة طاهرة تفوق العقل.]
+ إن كتابات العلامة أوريجانوس تكشف أن اهتماماته الأولى تكمن في خلاص أنفسنا. لذا يقول رون جرير [Rown A. Greer ) عن حالة جهاد الروح للرجوع إلى الله.
إن أفكار أوريجانوس بخصوص الاستشهاد، الصلاة والكتاب المقدس تندمج في رؤيا واحدة للحياة المسيحية؛ انه اتجاه نحو معرفة كاملة لله والاشتراك معه من خلال المسيح. 
من خلال هذا الاتجاه السوتيريولوجي، لا يستغرق المؤمن في مناقشات نظرية، ولكنه يحمل رغبة صادقة في أن يشترك جميع البشر معه فيما هو يمارسه.
إن اللاهوت الخلاصي لا يمكن أن ينفصل عن الكرازة؛ فكلما يصل المؤمن إلى بركات الخلاص يلتهب قلبه أكثر بالحب الأخوي. وفي الوقت نفسه، كل شهادة للمخلص تمنح المؤمن خبرة خلاصية جديدة. وبينما هو يخدم الآخرين، يكون هو نفسه مخدوم.
 هكذا نستطيع أن نقول أن خلاصنا وتبشيرنا للإنجيل هما حقًا عمل واحد ذو بُعدين متكاملين، عندما نفقد أحدهما لا يمكن أن نحتفظ بالآخر. 

(3) المصطلحات اللاهوتية 
بسبب إنتشار الثقافة اليونانية في العالم كله، استخدمت مدرسة الإسكندرية مصطلحات فلسفية يونانية لشرح العقائد المسيحية لتربح الفلاسفة والهراطقة. وعلى الرغم من استخدام السكندريون المصطلحات الفسلفية إلا إنهم لم يكونوا عبيدًا لها. هذا ما قصده القديس أثناسيوس حينما قال أن المنازعات حول الكلمات لا يجب أن تقسم هؤلاء الذين يفكرون بنفس الطريقة. 
الآباء السكندريون لم يعطوا تعريفات محددة لأي مصطلحات لاهوتية لأنهم كانوا منشغلين فقط في تطبيق اللاهوت. لقد لاحظ بنجامين درويري Benjamin Drewery أنه لم يستطع أن يجد تعريفًا محددًا لنعمة الله خلال الكتابات العديدة لأوريجانوس. فاستنتج إذن أنه [لو طُلِبَ من أوريجانوس تقديم تعريف رسمي للنعمة، لأجاب إلى حد ما هكذا: "النعمة هي قوة الله الحرة، ولكنها ليست غير مشروطة، فهي موضوعة عند تدبير الإنسان"]. 
بهذه النظرة اللاهوتية، نكتشف أن المؤمنين لم ينشغلوا بالمصطلحات النظرية، ولكنهم اشتهوا الخلاص وتمجيد جميع البشر. 
  
      الكرازة ووجهة نظر المدرسة تجاه الكنيسة وتقليدها 
(1) الكنيسة تحب الجنس البشري كله 
العلامة أوريجانوس الذي كان ملتهبًا بحب البشرية كلها كان يشتهي خلاص كل الناس. لذا لما اتهم كِلسس Celsus المسيحيين بأنهم يؤمنون أن الله قد تخلى عن بقية البشرية وهو يهتم بالكنيسة فقط، أجاب أوريجانوس أن هذا ليس إيمانًا مسيحيًا.
(2) الكنيسة تحزن من أجل الخطاة 
الكنيسة مع رأسها، يسوع المسيح، تحزن إلى أن يرجع كل الخطاة إلى الله.
وفي تعليق أوريجانوس على هذه الآية "وأقول لكم إني من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديدًا في ملكوت أبي." (مت٢٦: ٢٩)، شرح أن الخمر في الكتاب المقدس هو رمز للفرح الروحي، وأن الله وعد شعبه بمباركة كرْمهم أي يمنحهم فيض من الفرح الروحي.
 من أجل ذلك، منع الكهنة من شُرْبِ الخمر عند دخولهم الهيكل، لأنه يريدهم أن يكونوا في حزنٍ أثناء تقديم الذبائح لأجل الخطاة. إذن، عندما يصطلح الخطاة مع الله، يصير فرحهم كاملاً. ويؤمن أوريجانوس أن ربنا يسوع المسيح نفسه وقديسيه ينتظرون توبة الخطاة وأن فرحهم حتى ذلك الحين يكون غير كامل. 
[عندما يترك القديسون هذا المكان، فإنهم لن يحصلوا مباشرة على الأجر الكامل لفضائلهم. إنهم ينتظروننا أيضًا حتى ولو تأخرنا، لأنهم لم يبلغوا البهجة الكاملة طالما أنهم يحزنون لأخطائنا ويشعرون بالأسى لآثامنا. ربما لا تصدقونني عندما أقول هذا. لأنه من أنا حتى أتجاسر وأؤكد معنى مثل هذه العقيدة ؟ ولكنني أُقَدِّم شهادة هؤلاء الذين لا تقدرون أن تشكوا فيهم. فالرسول بولس هو معلم الأمم في الإيمان والحق(تيموثاوس٢: ٧). 
لذلك في رسالته للعبرانيين وبعد أن أحصى كل الآباء القديسين الذين تبرروا بالإيمان، أضاف بعد ذلك "فهؤلاء كلهم مشهود لهم بالإيمان لم ينالوا الموعد إذ سبق الله فنظر لنا شيئًا أفضل لكي لا يُكملوا بدوننا"(عب١١: ٣٩-٤٠). 
أنتم ترون إذن أن إبراهيم ما زال ينتظر أن يبلغ الأمور الكاملة، اسحق ينتظر ويعقوب وكل الأنبياء ينتظروننا حتى ما يملكون التطويب الكامل معنا. 
لذلك فإن كنتم أتقياء فإنكم ستتهللون عندما ترحلون من هذه الحياة. لكن سيكتمل تهليلكم عندما لا ينقصكم أي عضو من أعضاء الجسد، أنتم ستنتظرون الآخرين مثلما انتظركم. 
لأن التهليل لم يكمل لكم أنت الأعضاء إذا كان أحد الأعضاء ناقصًا. فكم بالأكثر يعتبر ربنا ومخلصنا الذي هو الرأس (أف٤: ١٥-١٦)، وأصل الجسد كله فرحه غير كامل طالما أنه يرى أحد الأعضاء ناقصًا من جسده. وربما لهذا السبب أعلن هذا في صلاته للآب: "مجدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم" (يو١٧: ٥). هكذا أنه لا يريد أن يقبل كامل مجده بدوننا، بمعنى، أنه نفسه يريد أن يحيا في جسد كنيسته وفي شعبه كما في نفوسهم حتى يكون له كل القوى الدافعة وكل الأعمال بحسب مشيئته، حتى يتم حقًا فينا ما قاله النبي: "وأجعل مسكني في وسطكم... وأسير بينكم" (لا٢٦: ١١-١٢)]
(3) الكرازة المتواصلة في العالم كله 
الكنيسة التي رآها وأحبها العلامة أوريجانوس هي مجموعة تلاميذ المسيح المنتشرين على وجه الأرض. هذا المجتمع العظيم لا يمكن أبدًا أن يُقارَن ببقية البشر. إنه لا يكف أبدًا عن جذب أولئك المحتاجين إلى الإيمان. 
منذ بداية الكنيسة، كانت رسالة الإنجيل معلنة بواسطة المؤمنين أينما حلّوا أو ارتحلوا. 
وقد كتب العلامة أوريجانوس في بحثه ضد كِلسس Celsus قائلاً: [المسيحيون يبذلون كل جهدهم في نشر الإيمان في العالم كله. بعضهم يجعلون منه مهنة حياتهم أن يطوفوا ليس فقط من مدينة إلى مدينة بل من منطقة إلى منطقة ومن قرية إلى قرية، حتى يربحوا أناس جددًا لله]. 
(4) التقليد والكرازة
ما هو التقليد الذي تشعر الكنيسة بالتزام أن توصِّله للعالم أجمع؟
 إذا رجعنا إلى العصر الرسولي، فسوف نجد "عدة تقاليد للكنيسة المحلية" تقبل ثقافات متعددة. ولكن كل هذه الثقافات لها فكر واحد وهو فكر المسيح؛ روح واحد أي روح الرب وهدف واحد أي خلاصنا.
لهذا السبب لم يتردد أساقفة الإسكندرية في الاشتراك مع أساقفة من روما، أنطاكية وأورشليم في خدمة واحدة ومذبح واحد. بالرغم من وجود بعض الاختلافات في تفاصيل الطقوس والتقاليد، لكن الكل يشترك معًا في روح واحد (تقليد واحد). 
ولقد عاش الرسل جميعًا بروحٍ واحد منفتح على الكرازة. "فإني إذ كنت حرًا من الجميع استعبدت نفسي للجميع لأربح الكثيرين" (١كو٩: ١٩). 
وعندما كرز القديس مار مرقس في مصر، تكلم عن المسيح الواحد، فآمن به المصريون وأقاموا نُظم للعبادة من خلال ثقافتهم ولكن بروح رسولية حقيقية.
فعلى سبيل المثال، تختلف الألحان القبطية عن الألحان السيريانية أواللاتينية الخ.. ولكن الكل يشترك في الروح الهادئ والوديع والذي يحمل التعاليم الروحية والعقائدية الحقَّة. مثال آخر هو الأنوار والأضواء في بيت الرب؛ تستخدم كل الكنائس الرسولية في العالم أنوارًا وقت العبادة بالنهار والليل، خاصة أثناء قراءة الإنجيل.
هذه هي روح التقليد التي تعلن أن المسيح هو نور العالم. الشموع في الكنائس القبطية، السيريانية، اللاتينية، واليونانية تعكس الثقافة الخاصة بكلٍ منهم. 
بالرغم من أن إيمان المسيحيين الأرثوذكسيين في العالم كله واحد وأنهم يحافظون على التقليد كحقيقة حية، إلا أن كل كنيسة محلية تُعَبِّر عن هذا الإيمان الواحد بلغتها الخاصة، بطقوسها للقداس، بألحانها، بملابس الكهنوت المقدسة الخاصة بها، الخ... 
إن موقع الكنيسة لا يلغي من جامعيتها. بمعنى أن الاختلاف في التقاليد والتفاصيل لا يُشكِّل عقبة في طريق الكرازة. 
+ الكنيسة الأرثوذكسية وخاصة كنيسة الإسكندرية، حافظت على التقليد المقدس في شرحه وفي روحه. 
ولم تتدخل كنيستنا في السياسة ولم تتأثر بالسلطة العالمية. فهي تحافظ على روحانياتها وأكثر من ذلك على تقليدها بالرغم من العقبات الصعبة. والحركة الرهبانية قد حفظت تقليد الكنيسة في روحٍ متواضعة، إنجيلية وناسكة. 
+ يجب أن نفكر بجدية فيما يلزم أن نقدم للعالم في كرازتنا. فمثلا، عندما يقْبل إنسان فرنسي الإيمان الأرثوذكسي، يجب أن نُقَدِّم له العبادة بطريقة بسيطة في فكر أرثوذكسي، رسولي وآبائي وذلك من خلال ثقافته الخاصة. 
+ في عام ١٩٧٦م قال نيافة الأنبا غريغوريوس، مطران Newdelhi نيودلهي في الهند، في حديثه لرؤساء كنيسة أورشليم في ميلبورن أنه يجب علينا أن نزرع بذور أرثوذكسية في أرض أستراليا حتى أن تلك الشجرة تصبح شجرة أرثوذكسية أسترالية. 
+ على الكنيسة قيادة ومساعدة أبنائها على الكرازة بالطريق الأرثوذكسي للحياة بدون تجنُّب لروح الطقس والعقيدة وخصوصًا بعد انفتاح كنيسة الإسكندرية على العالم الخارجي بهجرة الآلاف إلى الخارج.
فالكنيسة يجب ألاَّ تنغلق على ذاتها لصالح جماعة محلية أو لغة ولكن يجب أن تتخذ مسئوليتها المسكونية. حقًا، إننا في هذه الأيام في حاجة مُلحة إلى لاهوتيين أرثوذكسيين يقدِّمون التقليد الحيّ للكون بقلبٍ مفتوح. 
(5) الكرازة وعلاقة المدرسة بالكنيسة 
مدرسة الإسكندرية كانت معهد تعليمي منفرد. العميد كان الرجل الثاني بعد البطريرك. ولقد أُختير الكثير من عمدائها ليصيروا أساقفة أو بطاركة للإسكندرية. لم يتطَّلع أيًا منهم أن يصير بطريركًا وكانوا لا يتدخلون أبدًا في إدارة الكنيسة.
لقد كرسوا كل حياتهم للدراسة والتعليم والكرازة، في تواضع. كانوا مع تلاميذهم نساك حقيقيين ومتعبدين لله. 
لم يواجهوا خلافات في تعاملهم مع الإكليروس، حتى عندما دَعَا البابا ديمتريوس إلى انعقاد مجمعًا كنسيًا في الإسكندرية وطلب من العلامة أوريجانوس أن يترك الإسكندرية، غادر العلامة أوريجانوس بدون إحداث أي مشاكل. وبالرغم من كونه ذائع الصيت في مصر والخارج، إلا أنه لم يرد أن يضيع وقته في مشاكل.
بل عوضًا عن ذلك أسس مدرسة جديدة في فلسطين ورفض أن يرجع إلى مصر بعد رحيل البابا، قائلاً: أن فلسطين كانت في أشد الحاجة إلى مجهوده عن الإسكندرية. 
(6) الكرازة والكنيسة كحياة سماوية 
عمداء مدرسة الإسكندرية كانوا يرجون أن يقودوا كل أحد إلى الآب السماوي. لذلك كانوا هم أنفسهم كانوا حريصين على ممارسة الحياة السماوية، كشهادة للسماء. 
ولقد قال القديس كليمندس السكندري أن الأرض تتحول إلى سماء بالنسبة للغنوسي Gnostic، أي المؤمن الروحي.
الغنوسي يمارس حياة سماوية خلال فترة وجوده على الأرض. لأنه [سيستريح على جبل الله المقدس، الكنيسة العليا، حيث يجتمع فلاسفة الله، الإسرائيليين الحقيقيين الذين هم أنقياء القلب... يقدمون أنفسهم للمعرفة الطاهرة التي للتأمل اللانهائي] هو أيضًا يقول:
 [لو أنك سجلتَ نفسك كواحدٍ من شعب الله، تكون السماء هي وطنك والله هو شريعتك]. 
إن الكنيسة الأرضية بالنسبة للقديس كليمندس، هي صورة للكنيسة السماوية، فلذلك نحن نصلي أن تَتِم مشيئة الله على الأرض كما هي في السماء. إنَّ الكنيسة المثالية أو "الكنيسة السماوية" كانت دائمًا موضوع فكر كليمندس في المتفرقات (stromata ) . 
وقد أكَّد أوريجانوس أن المؤمنين يبلغون الحياة السماوية عن طريق عمل الصليب [فإن المسيح عمل صلحًا بين السماوات والأرض بواسطة دمه (كو1: 20)، حتى صار للأرضي شركة مع السمائي] . 
[كما أن الشمس والقمر أعظم أضواء القبة السماوية، هكذا أيضًا المسيح والكنيسة فينا وكما أن الله وضع نجومًا في القبة السماوية، فإنه وضع نجومًا فينا التي هي في سماء قلوبنا]. 
علَّق أوريجانوس على الكلمات ".. وفصل بين المياه التي تحت الجلد والمياه التي فوق الجلد..." (تك١: ٧)، قائلاً: [لهذا السبب، باشتراكنا في ذلك الماء السماوي الذي قيل أنه فوق السموات، يصير كل مؤمن سماويًا بمعنى أنه يرفع عقله لأمور مرتفعة وسامية، غير متفكر البتة في الأمور الأرضية ولكن بالكلية في الأمور السماوية، "فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله" (كو٣: ١)]. 

     الكرازة ووجهة نظر المدرسة تجاه الفلسفة 
الإسكندرية، المدينة العالمية، تم اختيارها كموطن للتعليم. ازدهرت فيها الثقافات المصرية، اليونانية واليهودية مع الأفكار الشرقية الباطنية. لم يُردْ عمداء المدرسة الدخول في منافسة مع الفلسفات ولا أن يتحدوها. تعاملوا مع الفلاسفة بذهنٍ متسع وقلبٍ منفتح وحبٍ صادق. 
ففي القرن الثاني، كان ترتليان، أول لاهوتي من آباء الغرب هاجم النظريات الفلسلفية كعدو للإيمان والفلاسفة كأعداء للمؤمنين. وفي نفس القرن، في الإسكندرية، أصر القديس بنتنيوس أن يمارس عمله كعميد للمدرسة لابسًا ثوب الفلاسفة. أما أوريجانوس فقال أن بنتنيوس جذب فلاسفة وثنيين كثيرين للإيمان المسيحي. 
القديس كليمندس السكندري كان أول كاتب مسيحي يعلن أن الفلسفة هي طريقة الله لإهداء الناس المتعلمين إلى المسيحية. أما تلميذه أوريجانوس، لم يتفق مع الفلسفة ولكنه أصرَّ على استخدام الفلسفة لجذب الفلاسفة. 
الآباء السكندريون الأوائل عرفوا كيف يكرزون وسط الفلاسفة باستخدام طريقتهم الخاصة. لهذا يجب أن نتبع خطواتهم بكرازتنا للآخرين خلال ثقافتهم الخاصة. وعلينا الاعتراف بعقليتهم لنعلن الإيمان لهم. 

     مدرسة الإسكندرية وروح الفرح 
إن الكتاب المقدس بالنسبة لهذه المدرسة هو رحلة للنفس من الأرض إلى السماء. الكنيسة هي أيقونة السماء ومجتمع للفرح. يشتاق المؤمنون إلى رؤية البشر وقد صاروا ملائكة متهللين. لذلك سادت روح الفرح على عمداء وتلاميذ المدرسة حتى في أوقات الاضطهاد. 
لقد اعتبر القديس كليمندس الحياة المسيحية كعيد لا ينتهي. فبالنسبة له، إن الغنوسي الحقيقي يعتبر أن الوصول إلى الحياة الجديدة في المسيح بمثابة عيد. 
وأوريجانوس كانت له نفس الفكرة . فالبنسبة له لا يحتفل المسيحي بعيد الفصح فقط في وقت القيامة بل في كل الأوقات. هو يعيِّد بخبزٍ غير مختمر هو الإخلاص والحق وبأعشاب مرّة هي الحزن والتوبة. إن حياته هي بصخة أو عيد غير منقطع، مليء بالفرح الروحي من خلال التوبة. 
يقول أوريجانوس: [قل لي، أنت يا من تجيء إلى الكنيسة في أيام الأعياد فقط، هل الأيام الأخرى ليست أعياد؟ أليست هي أيامًا للرب؟!]. 
فبالنسبة لأوريجانوس [كل يوم هو يوم الرب...لذلك فإن المسيحيين يأكلون يوميًا جسد الحَمَل، يتناولون كل يوم جسد الكلمة، لأن المسيح فصحنا قد ذُبِحَ لأجلنا (١كو٥: ٧)]. 
ويعلِّق أوريجانوس يعلق على كلمات المرتل: "طوبى للشعب العارفين الهتاف" (مز٨٩: ٥)، قائلاً: [إنه لا يقول: "طوبى للشعب الذي يزاول الصلاح" أو "الذين عندهم معرفة السماء والأرض والنجوم" ولكن "العارفين الهتاف" أحيانًا مخافة الله تمنح الإنسان فرحًا...هنا يُقدَّم التطويب بفيض، لماذا؟ لأن كل الناس يشتركون فيه والكل يعرفون الشركة بطريقة مفرحة سليمة!]. 
[...بخصوص اسحق، يقول الكتاب: "كَبُرَ" وأصبح قويًا، بمعنى أن فرح إبراهيم كبر عندما لم ينظر إلى هذه الأشياء التي تُرَى بل إلى التي لا ترى" (٢قارن كو٤: ١٨).
 لأن إبراهيم لم يفرح بالأشياء الحاضرة أو بغنى العالم وحيوية العمر. بل هل ترغب في أن تسمع لماذا تهلل إبراهيم؟ اسمع الرب قائلاً لليهود: أبوكم إبراهيم تهلَّل أن يرى يومي فرأى وفرح" (يو٨: ٥٦). بنفس الطريقة إذن، "اسحق كبر" (تك٢١: ٨). هذه الرؤية هي التي رأى فيها إبراهيم يوم الرب ورجاؤه في المسيح ضاعف فرحته. ليتك تصير مثل اسحق وتتهلل داخل أمك الكنيسة]. 
ولقد دوَّن القديس أثناسيوس عن معلمه القديس أنطونيوس العظيم: [بسبب أن نفسه كانت حُرَّة من الاضطرابات، فمظهره الخارجي كان هادئًا. ومن نفسه المتهللة، كان يملك وجه مسرور، ومن حركاته الجسدية كانت تُدرَك حالة روحه، كما هو مكتوب: "القلب الفرحان يجعل الوجه طلقًا وبحزن القلب تنسحق الروح" (أم١٥: ١٣).هكذا كان يُعرَف أنطونيوس، لأنه لم يكن مضطربًا أبدًا، لأن نفسه كانت في سلام؛ لم يكتئب أبدًا، لأن قلبه كان متهللاً]. 
هذا انعكس على شخصية تلميذه البابا أثناسيوس الرسولي. نراه حتى في وسط محنته لم يكتب عن عزلته أو المقبرة التي اختبأ فيها. في كتاباته، لم يكتب أبدًا عن عدم قدرته على الاجتماع مع شعبه في الإسكندرية. لقد كتب عن حياته وسط صراعه العنيف واصفًا إياها بأنها كعيدٍ دائم. ويضيف قائلاً: أن عيدنا هو المسيح نفسه!. 
أينما عاش، حتى وهو مختبئًا في مقبرة كان يختبر عيد سماوي لا ينقطع، حيث يتجلى يسوع المسيح القائم في داخله. في فرحه الدائم، لم يمتنع أبدًا عن عمل المسيح، جاذبًا الكثيرين من خلال صلواته. حتى أنه أرسل خطابات لشعبه طالبًا منهم أن يشتركوا معه في احتفاله بالعيد الذي لا ينقطع. 
لقد كتب القديس أثناسيوس في رسالة فصحية: [إن مسرة عيدنا يا إخوتي دائمًا في أيدينا، ولا يخذل أبدًا أولئك الذين يرغبون في الإحتفال به. لأن الكلمة هو قريب، الذي هو كل الأشياء بالنسبة لنا، حتى ربنا يسوع المسيح الذي وعدنا أن مسكنه معنا لابد أن يكون أبديًا، بمقتضى ذلك صرخ قائلاً: "هوذا أنا معكم كل الأيام إلى إنقضاء الدهر" (مت٢٨: ٢٠). لأنه هو الراعي والكاهن الأعظم، الطريق والباب وكل شيء بالنسبة لنا، أيضًا هو يُعلَن لنا كالعيد واليوم المقدس، حسب الرسول المبارك: "فصحنا المسيح قد ذُبِحَ لأجلنا" (١كو٥: ٧)]. 
العالم ليس في حاجة إلى عدة مناقشات نظرية ولكن إلى أن يتلامس مع السماء المفرحة المبهجة. لذلك، فإن روح الفرح هو الشاهد الحيّ للمسيحية. ومن خلاله، يعترف الناس أن السماء قريبة جدًا خلال عمل الثالوث القدوس. 

      الكرازة والروح المسكونية 
لا شك أن الناس يمكنهم تَذوُّق حلاوة إيمانهم بالثالوث القدوس من خلال الروح المسكونية الحقيقية. الحركة المسكونية هي روح نشرتها مدرسة الإسكندرية لا عن طريق الكلام عن وحدة الكنائس في العالم أجمع ولكن بممارسة طرق عديدة: 
1ـ جذب المدرسة للعديد من الطلبة الأجانب لدراسة علم اللاهوت، خاصة تفسير الكتب المقدسة. ثم صار هؤلاء الطلبة بعد ذلك قادة في كنائسهم. 
2ـ نشاط عمداء المدرسة خارج مصر، بسبب حبهم للكنيسة الجامعة؛ لم يكونوا يتطلعون إلى أي اعتبارات شخصية ولا الحصول على أي قوة سياسية في كنائسهم. فمثلاً سافر العلامة أوريجانوس إلى روما، قيصرية، العربية، تيرا، ...الخ. 
3ـ كان اللاهوتيون السكندريون قادة ورواد في المجامع المسكونية. 
4ـ المخطوطات القبطية هي دليل على أن الأقباط ترجموا تقريبًا جميع الأدب المسيحي الذي كان موجودًا في العالم في ذلك الوقت. 
الفائدة من دراسة "الكرازة ومدرسة الإسكندرية" 
هذا الوصف العام والمختصر عن دور مدرسة الإسكندرية في الكرازة يساعدنا على التعرُّف على رسالتنا نحو التبشير بالإنجيل في العالم كله. 
الكرازة، في حقيقتها، هي عطية نقْبلها من الروح القدس الناري الذي يعمل في داخل أنفسنا. هو يُقَدِّس كل قدراتنا ومواهبنا لأجل انتنشار ملكوت الله على الأرض. وعلينا الإقتداء بهؤلاء العمداء الملتهبين من خلال نوالنا روح الكرازة وتوجيهنا للجيل الجديد كتلاميذ روحيين لنا. 
ملاحظات: 
1- علينا توضيح المفهوم الحقيقي للرهبنة. فإن بعض الكُتَّاب يعتقدون أنها هروب من المسئوليات؛ وأنها حياة في جو من الحزن والأسف. على العكس، لقد تكلم القديس يوحنا كاسيان عن الرهبان كبشر فرحين قد صعدوا إلى السماء أو كملائكة يعيشون على الأرض. لهذا تحوَّل وثنيون كثيرون إلى الإيمان بالمسيح من خلال الحياة المفرحة لأبينا أبوللو وتلاميذه في صعيد مصر. 
2- علينا مراجعة وتعديل عظاتنا الدينية ومناهج مدارس الأحد واجتماعات الشباب خاصة في النقاط التالية: 
+ التركيز على دور كل عضو في الكنيسة تجاه التبشير بالإنجيل في العالم كله. 
+ اكتشاف وضعنا كأولاد الله، وافتخارنا بالعمل الفدائي لله ولنعمته. 
+ التبشير بإيماننا الأرثوذكسي، وليس ثقافتنا المحلية، مع احترام ثقافة الآخرين. 
+ توضيح المفاهيم الحقيقية للكنيسة وتقليدها. 
+ التركيز على الكتاب المقدس واكتشاف خطة الله لكل إنسان. 
+ علينا دراسة ثقافات العالم المختلفة بجدية لنعد أنفسنا لكرازة الإيمان الأرثوذكسي للجميع. 

القمص / تادرس يعقوب ملطى
عن مجلة مدرسة الاسكندرية
السنة الاولى العدد الاول 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق